العمل الخيري الكويتي- توازن دقيق بين المركزية واللامركزية

في خضم التوجهات العالمية المتنامية نحو إحكام السيطرة الرسمية على العمل الخيري الخارجي، عن طريق تبني نموذج المركزية، تتصاعد حدة النقاشات الدائرة حول هذا النمط، بين جاذبية الإيجابيات المحتملة وما يعتريه من سلبيات قد تعرقل مسيرة العطاء.
سوف نتناول هذا الموضوع بإسهاب، مع التركيز بشكل خاص على نموذج العمل الخيري الكويتي، الذي يعتبر من بين أكثر النماذج إثارة للاهتمام في المنطقة العربية، وذلك لما يتمتع به من مكانة راسخة ونفوذ ملموس، فضلاً عن جمعه الفريد بين المركزية واللامركزية. وتتزايد التوقعات بأن هذا النموذج قد ينضم قريبًا إلى النماذج الأخرى الساعية إلى المركزية.
الإيجابيات الجوهرية للنموذج المركزي للعمل الخيري الخارجي
على صعيد المزايا، تتجلى الجودة العالية والدقة المتناهية في البيانات المتعلقة بالتبرعات والمساعدات، ولا سيما فيما يتعلق بالرقم الإجمالي لها، سواء كانت هذه التبرعات صادرة من الهيئات الإنسانية والخيرية، أو من الجهات الرسمية التابعة للدولة بمختلف وزاراتها وأجهزتها.
علاوة على ذلك، ييسر هذا النموذج الوصول إلى شرائح معينة من المجتمع ممن يترددون في التبرع بشكل مباشر إلى الجمعيات الخيرية غير الحكومية، وعلى وجه الخصوص كبار المتبرعين والشركات العملاقة، وذلك نتيجة لتأثرهم بالحملات الإعلامية التي تستهدف العمل الخيري، فضلاً عن تخوفهم على مصالحهم التجارية.
ومن بين الإيجابيات الجوهرية للمركزية أيضًا منع الازدواجية والتكرار في تقديم المساعدات للفئات المستحقة أو المناطق المنكوبة نفسها، بالإضافة إلى تعزيز فاعلية العمل الخيري من خلال التركيز على الأولويات الملحة والمناطق الأكثر حاجة للدعم.
إلى جانب هذه المزايا الجذابة للعديد من الدول، يظهر مبرر آخر، ألا وهو الوقاية من الاتهامات المتعلقة بدعم الإرهاب أو غسل الأموال. مما يستدعي الإبقاء على التبرعات الموجهة للخارج تحت مظلة حكومية أو شبه حكومية، وهو الأمر الذي تبنته بالفعل بعض الدول، فيما تعتزم دول أخرى تطبيق هذا النهج في المستقبل القريب.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى التوصية الثامنة الصادرة عن مجموعة العمل المالي الدولية التابعة لصندوق النقد الدولي (FATF)، والتي تعتبر واحدة من أبرز الضوابط الدولية في الإطار المتعلق بـ «المنظمات غير الهادفة للربح». تنص هذه التوصية على أنه «ينبغي على الدول أن تراجع مدى ملاءمة القوانين واللوائح التي تحكم الكيانات التي يُحتمل استغلالها في تمويل الإرهاب، مع التركيز بشكل خاص على المنظمات غير الهادفة للربح، التي تعتبر عرضةً لهذا الخطر. يجب على الدول تطبيق تدابير مركزة ومتناسبة، تتماشى مع المنهج القائم على المخاطر، لحماية هذه المنظمات من الاستغلال في تمويل الإرهاب، ويشمل ذلك:
- من قبل التنظيمات الإرهابية التي تتخفى في صورة كيانات مشروعة.
- بغرض استغلال الكيانات المشروعة كأدوات لتمويل الإرهاب، بما في ذلك التحايل على تدابير تجميد الأصول.
- لإخفاء أو التستر على تحويل الأموال المخصصة لأغراض مشروعة سرًا إلى منظمات إرهابية.
تؤكد التوجيهات المرتبطة بالتوصية الثامنة على ضرورة أن تضع الدول آليات فعالة لرصد التبرعات والمعاملات المالية، كما توصي بتطبيق إجراءات رقابية وتنظيمية صارمة على أنشطة المنظمات الخيرية، بما في ذلك مراقبة تدفقات التبرعات الدولية؛ بهدف ضمان الشفافية التامة وعدم استغلالها في أغراض غير مشروعة.
وعلى الرغم من أن التوصية لا تتحدث بصراحة عن "آلية مركزية" لإرسال التبرعات، إلا أنها تحث الدول على وضع أنظمة تنظيمية تتناسب مع تقييم المخاطر الوطنية والدولية، وهو ما يشمل ضمنيًا – مع الأسف – إنشاء هيئات مركزية لتنظيم ومراقبة تدفقات التبرعات الدولية.
السلبيات الكامنة في مركزية العمل الخيري الخارجي
في المقابل، لا يمكن إغفال السلبيات العديدة التي قد تنجم عن وجود جهة مركزية تتولى تنظيم إرسال التبرعات الخيرية إلى الخارج. من أبرز هذه السلبيات تفاقم البيروقراطية وتعقيد الإجراءات، مما يؤدي حتمًا إلى تأخير وصول المساعدات إلى مستحقيها، خاصة في الحالات الطارئة التي تتطلب استجابة فورية.
كما أن المركزية قد تؤدي إلى تركز السلطة في يد عدد قليل من الأفراد، مما يفتح الباب أمام احتمالات سوء الإدارة أو المحسوبية والواسطة، ويضعف دور المبادرات المستقلة والجمعيات الصغيرة التي تساهم بشكل فعال في العمل الخيري.
بالإضافة إلى ذلك، قد تعاني الجهة المركزية من ارتفاع التكاليف الإدارية، مما يؤثر سلبًا على النسبة المخصصة للمستفيدين الفعليين من التبرعات، مع احتمال كبير لغياب الشفافية في تتبع الأموال المرسلة وتحديد وجهتها النهائية.
ومن الوارد أيضًا أن يؤدي تدخل الاعتبارات السياسية إلى توجيه التبرعات نحو تحقيق أهداف سياسية محددة، بدلاً من تلبية الاحتياجات الفعلية للمجتمعات المستحقة، مما قد يقوض الثقة بين المتبرعين والمستفيدين.
وعلاوة على ذلك، قد تفتقر الجهة المركزية، مقارنة بالجمعيات الخيرية المتخصصة، إلى المرونة الكافية لتلبية الاحتياجات المتنوعة للمجتمعات المستفيدة، مما يعيق الإبداع ويثبط عزيمة الجمعيات الخيرية عن تقديم مبادرات نوعية ومبتكرة للقطاع الخيري، فضلاً عن إمكانية ظهور سوق سوداء للعمل الخيري الخارجي.
العمل الخيري العابر للحدود في تقارير مؤشرات جامعة إنديانا العالمية
لإجراء مقارنة موضوعية، يجدر بنا الرجوع إلى تقرير مؤشر بيئة العمل الخيري العالمي لعام 2022، الصادر عن جامعة إنديانا، والذي تناول بالتفصيل مدى حرية المنظمات الخيرية في إرسال التبرعات إلى الخارج، دون تدخل حكومي مفرط يعيق عملها.
على مقياس يتراوح بين 1 و 5، حصل إقليم شمال أوروبا على أعلى تقييم، حيث بلغت الدرجة 4.75، وذلك بفضل تبني الحكومات في هذه المنطقة سياسات تهدف إلى تعزيز بيئة تعاونية مع المنظمات الخيرية. الإطار التنظيمي في هذه المنطقة مصمم خصيصًا لتحقيق توازن دقيق بين الحاجة إلى الرقابة الفعالة وتشجيع الأعمال الخيرية الدولية.
يوجد في شمال أوروبا قدر محدود للغاية من العقبات البيروقراطية التي تواجهها المنظمات الخيرية عند تحويل التبرعات دوليًا، مع مستوى عالٍ من الشفافية في العمليات والآليات التنظيمية الفعالة التي تسهل عمل هذه المنظمات على نطاق عالمي.
في المقابل، حصل إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على أدنى تقييم، حيث بلغت الدرجة 2.6 فقط. يعزى هذا التقييم المنخفض إلى أن المنظمات الخيرية في المنطقة لا تحظى سوى بحوافز محدودة للانخراط في الأعمال الخيرية الدولية، كما أنها تواجه رقابة حكومية مشددة وسيطرة مستمرة على أنشطتها، ويشمل ذلك فرض قيود صارمة على التمويل الدولي وتدفقات التبرعات.
تفرض العديد من الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قوانين صارمة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، مما يعيق بدوره قدرة المنظمات الخيرية على العمل عبر الحدود. وفي بعض الحالات، تلزم اللوائح بالحصول على موافقات حكومية مسبقة للمعاملات عبر الحدود، مما قد يؤدي إلى تأخير التبرعات أو منعها بشكل كامل.
ومن جهة أخرى، تؤدي حالة عدم الاستقرار السياسي والتحديات الاقتصادية المتفاقمة في العديد من دول المنطقة إلى تفاقم البيئة التقييدية، حيث تميل الحكومات إلى تشديد الرقابة خلال الأزمات، مما يحد بشكل كبير من تدفق الموارد من وإلى المنطقة.
وبالعودة إلى التوصية الثامنة الصادرة عن مجموعة العمل المالي الدولية التابعة لصندوق النقد الدولي (FATF)، ومع الاعتراف بأهميتها بشكل عام، إلا أنها كانت موضع انتقاد من قبل كلية ليلي فاميلي للعمل الخيري في جامعة إنديانا، وذلك في سياق الحديث عن البيئة القانونية للعمل الخيري عبر الحدود، في تقريرها الذي تشرفت بالمشاركة فيه ضمن «مؤشر تتبع العطاء العالمي 2020».
أوضح التقرير أنه على الرغم من أن مجموعة العمل المالي شجعت الدول على مراجعة التشريعات وتطبيق إجراءات متناسبة وسياسات مرنة لضمان حيوية القطاع الخيري، إلا أن لوائح مكافحة غسل الأموال ومكافحة الإرهاب ظلت تشكل حواجز كبيرة أمام العطاء عبر الحدود في العقد الماضي. وقد قامت العديد من الدول أيضًا بإدخال لوائح تحظر الأموال الأجنبية الواردة، أو التي توجه إلى المنظمات الخيرية ذات التمويل الأجنبي.
وأشار التقرير إلى أن مثل هذه اللوائح لا تعيق قدرة المنظمات الخيرية الممولة من الخارج فحسب، بل إنها تثبط عزيمة الجهات المانحة والمتلقية على حد سواء، عن المشاركة في الأعمال الخيرية الخاصة العابرة للحدود وتعزيزها على الصعيد العالمي.
كذلك، كانت التوصية ذاتها موضع انتقاد في تقرير المركز الدولي للقانون غير الربحي لعام 2022، بشأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ومنظمات المجتمع المدني في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث ذكر التقرير أن تأخر التمويل سيؤثر سلبًا على الخدمات الأساسية التي تقدمها المنظمات غير الربحية.
فقد يؤثر ذلك على إيصال المواد الغذائية والأدوية المنقذة للحياة، وعلى توفير فرص التعليم للأطفال المحرومين، بل وقد يؤدي إلى إلغاء المشاريع التنموية بشكل كامل، الأمر الذي يؤثر بشكل مباشر على المستفيدين ويحرمهم من الخدمات الضرورية. كما سيؤدي إلى ضياع الكثير من الجهد والوقت في الإجراءات البنكية المعقدة، بدلاً من التركيز على تقديم الخدمات والمساعدات للمحتاجين، فضلاً عن تضرر سمعة المنظمات غير الربحية نتيجة لكثرة الحديث عن احتمالية غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وبالتالي، سيكون الحصول على التمويل، سواء كان محليًا أو دوليًا، أمرًا صعبًا ومحدودًا!
النموذج الكويتي الفريد بين المركزية واللامركزية
أما دولة الكويت، فقد اشتهرت بتبني نهج متميز يجمع بين المركزية واللامركزية في آن واحد، حيث توفر للجمعيات الخيرية الكويتية مساحة واسعة من الحرية في العمل، مما أكسبها قدرًا كبيرًا من الإبداع والرشاقة في تنفيذ المشاريع الخيرية. وفي الوقت نفسه، تخضع هذه الجمعيات للإشراف المباشر من قبل وزارتي الخارجية والشؤون الاجتماعية، اللتين تلتزمان بعدم التعامل إلا مع الجهات الخيرية الخارجية المعتمدة في منظومة العمل الإنساني التابعة لوزارة الخارجية.
يتم ذلك من خلال سلسلة من الإجراءات والشروط والتدقيق الصارم على ملفات وبيانات الجهات الخيرية التي تتقدم بطلب الاعتماد، وصولًا إلى قيام ممثلين عن سفارات الكويت بزيارة هذه الجهات في مقارها وإجراء استفسارات هادفة للتعرف على طبيعة عمل الجمعية وأهدافها. وقد تسنى لي حضور جزء من هذه العملية مع ممثل سفارة الكويت في واشنطن خلال مراحل اعتماد منظمة UMR في الولايات المتحدة.
علاوة على ذلك، تُلزم الجمعيات الخيرية الكويتية بالحصول على الموافقات المسبقة على عمليات التحويل المالي والمشاريع الخيرية التي تنفذ خارج الكويت قبل البدء بالتنفيذ، ثم يتعين عليها تقديم تقارير مفصلة عن المتابعة والنتائج بعد الانتهاء من التنفيذ. لقد ساهم هذا النهج المتوازن في جعل الجمعيات الخيرية الكويتية تحظى بثقة كبيرة من قبل الجهات الإشرافية والجمهور على حد سواء، كما أكسبها قدرة فائقة على الإبداع والابتكار في تقديم المساعدات للمحتاجين.
في هذا الإطار، يأتي التعميم الذي أصدرته وزارة الشؤون الاجتماعية عام 2022 بشأن تنظيم العمل الخيري من خلال الميكنة، والذي يهدف إلى إضفاء المزيد من الرشاقة الإجرائية على عمل الجمعيات الخيرية من خلال الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة. ويرتكز هذا النظام على 7 عناصر رئيسية، وهي: خطة المشاريع، والتحويلات البنكية، والتحويلات المالية، والبيانات المحاسبية، والطلبات القانونية، وقاعدة بيانات الجمعيات، وتقارير الموظفين.
يعمل هذا النظام بدوره على الربط مع منظومة العمل الإنساني التابعة لوزارة الخارجية لتدقيق بيانات التحويلات المالية بشكل آلي، بحيث لا تستطيع الجمعية إجراء أي تحويل إلى أي جهة غير موجودة أو ممنوعة في منظومة العمل الإنساني التابعة لوزارة الخارجية. وفي الوقت نفسه، يدعم النظام الشفافية بشكل كبير، حيث يكون التدخل البشري في كافة العناصر الرئيسية التي يقوم عليها عمل الجهات الخيرية محدودًا للغاية.
وعند إلقاء نظرة فاحصة على مؤشر بيئة العمل الخيري العالمي GEPI الذي تصدره جامعة إنديانا، وعلى النتائج المتقدمة التي حققتها دولة الكويت فيه مقارنة بدول المنطقة، خاصة فيما يتعلق بملاءمة البيئة التنظيمية لإرسال التبرعات إلى الخارج، يتضح لنا أن مساحة الحرية واللامركزية التي تميز دولة الكويت تتوافق بشكل كبير مع المؤشرات الجذابة والفاعلة والمثلى في بيئة العمل الخيري، والتي تسعى جامعة إنديانا إلى نشرها من خلال مؤشرها الذي يتم تنفيذه في حوالي 100 دولة حول العالم، وهو ما قد لا يروق للجهات الرقابية المتشددة على العمل الخيري!
وفي سياق الحديث المستمر عن مستقبل العمل الخيري الكويتي، في ظل التطورات المتسارعة التي تحدث في المنطقة والنماذج الموجودة حول دولة الكويت، إلى جانب بعض التغيرات الداخلية في الكويت، التي أوحت إلى بعض الجهات بوجود تشديد مرتقب على العمل الخيري الكويتي الخارجي، على الرغم من وجود ما يؤكد عكس ذلك، فإننا ما زلنا نشهد نشاطًا ملحوظًا وتميزًا واضحًا ورشاقة كبيرة في أداء الجمعيات الخيرية الكويتية.
فمن المألوف أن ترى مدير جمعية خيرية كويتية مثل "سعد العتيبي" في طليعة الحاضرين عند وقوع الكوارث الطبيعية المدمرة، مثل الزلازل التي ضربت سوريا وتركيا والمغرب. بالإضافة إلى الجهد الدؤوب والمتواصل للجمعيات الخيرية الكويتية في إغاثة قطاع غزة المنكوب، والذي انطلق منذ بداية العدوان الأخير بحملة واسعة النطاق تحت عنوان "فزعة لفلسطين"، التي شاركت فيها العديد من الهيئات واللجان الخيرية، مرورًا بتسيير جسر جوي من المساعدات الإنسانية في 52 رحلة، وقافلة ضخمة من الشاحنات المحملة بالمساعدات الضرورية من الكويت إلى معبر رفح الحدودي.
بالإضافة إلى إطلاق حملة شعبية طوعية لتسيير سفينتي إغاثة إلى قطاع غزة المحاصر عبر ميناء العريش البحري بالتعاون مع الهلال الأحمر التركي، شاركت فيها أكثر من 30 جمعية خيرية كويتية. وقد تمكنت الحملة من جمع مبلغ ضخم من التبرعات السخية في دقائق معدودة، ولا أخفي سرًا أن بعض الأصدقاء الأعزاء من خارج دولة الكويت قد سألوني عن كيفية تحويل تبرعاتهم إلى جهات خيرية كويتية موثوقة لتتولى إرسالها إلى المحتاجين في قطاع غزة!
يعتقد العديد من الكويتيين الذين أتحدث معهم في هذا الموضوع، وقد ذكره مرارًا وتكرارًا رئيس الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، الدكتور عبد الله المعتوق، أن مما يحفظ دولة الكويت ويحميها من كل سوء هو خيرها الذي يمتد إلى مئات الدول حول العالم.
ومما يحمي العمل الخيري الكويتي ويصون مكانته الرفيعة هو تلك النظرة التاريخية العميقة له، باعتباره جزءًا أساسيًا لا يتجزأ من تركيبة الدولة وهويتها. وقد بدأ هذا الأمر في مرحلة ما قبل الاستقلال من خلال المسؤولية الاجتماعية العميقة للقطاع الخاص في الكويت، حيث حرص تجار الكويت الكرام منذ القدم على إخراج زكاة المال وتقديمها لأوجه الخير المختلفة. فضلاً عن إقدامهم على التطوع وتقديم التبرعات السخية للدولة، حيث ساهموا قديمًا بالتبرع الطوعي للدولة عبر ضريبة كريمة فرضوها على أنفسهم، بدأت بنسبة متواضعة قدرها (1%) من قيمة بضائعهم التي يجلبونها إلى الكويت. ومع ازدياد احتياجات الدولة، كان التجار الكويتيون يزيدون من نسبة هذه الضريبة الطوعية التي وصلت إلى (5%) في عام 1936.
ولم تتوقف المسؤولية المجتمعية للتجار الكويتيين الأفذاذ عند هذا الحد، بل قاموا منذ القدم بتشكيل لجان خيرية مؤقتة لمعالجة القضايا الطارئة، وفي عام 1956 تم تأسيس اللجنة الشعبية لجمع التبرعات. تلك الجهود المباركة تجسدت في مقولات شعبية كويتية أصيلة، من أشهرها مقولة "ادفع حلواها تدفع بلواها"، التي وصفت عطاء الكويتيين الممتد بسخاء منذ ما قبل اكتشاف الثروة النفطية وحتى الوقت الحاضر إلى مختلف أنحاء المعمورة.
وقد برز في هذا العطاء الإنساني العديد من الرواد الملهمين، مثل الدكتور عبدالرحمن السميط وأعماله الجليلة في القارة الأفريقية. إن مثل هذا الإرث العظيم يجعل من الصعب على دولة الكويت أن تشدد القيود على العمل الخيري الخارجي وتتبنى مركزية التبرعات من خلال جهات حكومية فقط.
وبناءً على ما تقدم، لا أتوقع أن تغامر دولة الكويت بتاريخها العريق وإرثها المتواصل في العمل الخيري من خلال تبني ممارسات مفرطة في تقييد العمل الخيري الموجه إلى الخارج! وحتى لا يحدث ذلك، فعلى الجهات الخيرية الكويتية واجب الالتزام بالقوانين الدولية والمحلية بذكاء ووعي كاملين، وتلبية متطلبات وزارتَي الخارجية والشؤون الاجتماعية، وألا تتهاون تحت أي مبرر في مسألة الشفافية وتقديم التقارير الدقيقة للجهات الرسمية وأصحاب العلاقة.
